مقدار المبيت بمنى في الحج

مدة المبيت بمنى في الحج: الأحكام والضوابط الشرعية والتفصيل الفقهي الكامل

إنّ فريضة الحج من أعظم شعائر الإسلام، وقد رتّب الله لها من الأحكام والآداب ما يجعلها مدرسة إيمانية ومنهجًا تربويًا متكاملًا. ومن أبرز المناسك التي يقوم بها الحاج في أيام التشريق: المبيت بمنى، وهو من الشعائر المهمة التي أولاها الفقهاء عناية كبيرة، لما له من ارتباط مباشر بالسنة النبوية، ولأنه من الأعمال التي تتعلق بالزمان والمكان، مما يوجب التقيد بها بدقة.

يُعَدّ المبيت بمنى من واجبات الحج، وهو مرتبط بأيام التشريق التي تبدأ بعد يوم النحر، حيث يبيت الحاج في منى الليالي التالية، ويقوم بأداء عدد من الشعائر المرتبطة بها، وعلى رأسها رمي الجمرات.

في هذا المقال المطوّل، سيتم تناول مسألة المبيت بمنى من جميع جوانبها الشرعية والفقهية، مع تحليل آراء المذاهب الفقهية المختلفة، واستعراض تفاصيل الأيام والليالي المرتبطة بهذه الشعيرة، وأهم الأعذار التي تسقط بها هذه الفريضة، إضافة إلى التنظيمات الحديثة المتعلقة بها.

تعريف منى ومكانتها في الحج

منى وادٍ يقع بين مكة ومزدلفة، على بُعد نحو 7 كم من المسجد الحرام. وهو المشعر الذي ينزل فيه الحجاج بعد الإفاضة من مزدلفة، ويقضون فيه أيام التشريق، ويُؤدّون فيه رمي الجمرات الثلاث (الصغرى، والوسطى، والكبرى). وقد سُميت منى بهذا الاسم لتمني إبراهيم عليه السلام فيها أن يُفدي ابنه، أو لكثرة ما يُمنى فيها من الدماء من الأضاحي.

منى هي المشعر الذي نزل به النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام فيه أيام التشريق، وبيّن كيفية المبيت والرمي للصحابة، فصار هديه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في هذا الباب، وكان من أهم أقواله المتعلقة بالمبيت في منى: “خذوا عني مناسككم”.

مدة المبيت بمنى شرعًا

أولًا: المدة المحددة للمبيت

مدة المبيت بمنى شرعًا هي ليلتان أو ثلاث ليالٍ بعد يوم النحر (10 ذو الحجة)، وهي ليالي:

• ليلة الحادي عشر

• ليلة الثاني عشر

• ليلة الثالث عشر (اختيارية لمن تعجّل)

فالمكث في منى يبدأ من زوال شمس يوم النحر، ويمتد حتى غروب شمس يوم الثالث عشر من ذي الحجة، بحسب اختيارات الحاج.

وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم:

﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203].

قال جمهور المفسرين: الأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة: 11 و12 و13 من ذي الحجة.

المبيت بمنى: حكمه الشرعي

المبيت بمنى من واجبات الحج، وليس من أركانه، فلو تركه الحاج عمدًا أو سهوًا لزمه دم، ولا يفسد حجه.

تفصيل الحكم:

فالقول الذي عليه جماهير العلماء أن المبيت بمنى واجب من واجبات الحج، ولا يُجزئ الحاج تركه إلا بعذر معتبر شرعًا، وإلا فعليه دم.

وقت المبيت وكيفيته

المقصود بالمبيت هو أن يبيت الحاج في منى أكثر الليل، أي أن يمكث في منى بعد منتصف الليل وحتى طلوع الفجر، أو ما يعادل نصف الليل على الأقل.

ويُحسب الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإن كان الليل 10 ساعات، وجب أن يكون الحاج بمنى 5 ساعات فأكثر.

وقد جاء عن النبي ﷺ:

“نزلنا منى فصلينا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقدنا بها حتى أصبحنا” – رواه مسلم.

وقد التزم النبي ﷺ بالبقاء في منى طوال الليل، وعلّم أصحابه ذلك، فصار هذا هو الهدي المتّبع.

المبيت بمنى لمن أراد التعجل والتأخر

قال الله تعالى:

﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203].

التخيير بين التعجل والتأخر:

• من تعجل: يبيت في منى ليلتين فقط، ليلة 11 وليلة 12، ويغادر بعد رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر قبل غروب الشمس.

• من تأخر: يبيت ثلاث ليالٍ (ليلة 11، 12، و13)، ويكمل رمي الجمرات في اليوم الثالث عشر.

ومن لم يخرج من منى قبل غروب شمس يوم 12 وجب عليه المبيت ليلة 13، ولا يجوز له مغادرة منى بعدها إلا بعد رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر.

الأعذار التي تُسقط وجوب المبيت بمنى

رغم أن المبيت بمنى واجب، إلا أن هناك أعذارًا شرعية يُسقط بها هذا الواجب دون لزوم الفدية، منها:

1. المرض: إذا كان الحاج مريضًا لا يستطيع المبيت في منى.

2. الخدمة في الحج: مثل الأطباء، ورجال الأمن، والمتطوعين في خدمة الحجاج.

3. ضيق المكان: إذا لم يجد الحاج مكانًا يبيت فيه بمنى، وهو أمر شائع في العصر الحديث.

4. الخوف على النفس أو المال: إذا كان هناك تهديد أو مشقة شديدة.

وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:

“رخّص رسول الله ﷺ لرعاة الإبل أن يبيتوا خارج منى ويتركوا المبيت من أجل السقي والرعي”.

الفرق بين المبيت في منى ومزدلفة

فدية ترك المبيت بمنى

من ترك المبيت بمنى بدون عذر شرعي وجب عليه دم (ذبح شاة)، لحديث ابن عباس:

“من ترك نسكًا أو نسيه فليهرق دمًا”.

تفصيل الفدية:

• تُذبح شاة في مكة وتُوزع على فقراء الحرم.

• في حال تعذر الذبح، يصوم الحاج ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، كما في قوله تعالى:

  ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة: 196].

تنظيمات حديثة لمبيت الحجاج في منى

بسبب الأعداد الكبيرة للحجاج وصغر مساحة منى، فقد تم اتخاذ عدة تدابير تنظيمية، منها:

• إنشاء خيام مقاومة للحريق ومكيفة بالكامل.

• تقنين عدد الحجاج لكل حملة.

• استخدام الإسورة الإلكترونية لتحديد أماكن الحجاج.

• منع الحج الفردي العشوائي، لتفادي ازدحام منى.

كل هذه التنظيمات جاءت لضمان أن يؤدي الحجاج المبيت في منى وفق الشريعة الإسلامية، دون مشقة مفرطة أو خروج عن النظام.

الخلاصة

المبيت بمنى أحد واجبات الحج الثابتة عن النبي ﷺ والتي أجمعت الأمة على مشروعيتها. وقد نُظّم وقت المبيت ضمن أيام التشريق الثلاثة، واختلفت أحكامه حسب نية الحاج في التعجل أو التأخر. ويجب على الحاج المبيت أكثر الليل في منى، وإذا تركه بلا عذر فعليه دم، أما إذا كان له عذر معتبر شرعًا فلا فدية عليه. ولقد عملت السلطات الإسلامية على تيسير هذا الواجب بوسائل تنظيمية حديثة تحقق مقاصد الشريعة وتخفف من مشقة الزحام.

المراجع:

1. الموسوعة الفقهية الكويتية – وزارة الأوقاف الكويتية.

2. نيل الأوطار للشوكاني – دار الحديث.